البكلة والمعرفة
مريم الغامدي
جاءت ابنتي المطاعة في أوامرها ذات السبع سنوات والقريبة في ملامحها من ملامح بنات العشيرة.. ذات شعر كيرلي طويل ... لكنها تسيطر على الجزء الأمامي منه بشيء من بكلات عرائسها الجميلة .. دخلت البيت بهدوء ما عهدته منها .. فقد اعتدنا أن تبقى في حديقة المنزل من عشر دقائق إلى ربع الساعة .. تحكي أحداث يومها الدراسي لقطتها ولصديقات لا نراهن .. تجيب على جزء من واجباتها الدراسية فوق العشب.. وتوزع كتبها على مساحات الأرض والماء.. كان اليوم مختلفا عن باقي الأيام التي مضت فعين فيها تقدير وعين فيها عتاب سألتها عن العتاب لمن تحمله ولمن ترغب أن يصل فأجابت:
إلى معلمتي التي قالت لي بأنه لا يمكن أن أشارك في الإذاعة المدرسية كباقي زميلاتي إلا إذا رفعت شعري مثلهن بربطة أو بكلة.. وزميلاتي شادن وشذى لا يضعن بكلات ولا ربطات وشعري مثل شعرهن ويشاركن في الإذاعة كل صباح ..
وأنا يا ماما أعرف أقرأ.. معلمة القراءة تقول إني أعرف أقرأ.. لكن معلمة الإذاعة صديقة أم شادن وشذى .. هما أخبرتاني بذلك
تفاجأت.. ولكني احتويتها تنفست رائحتها البريئة وحزنها الناعم ثم سرحت بعيدا وتساءلت بعمق الأثر والموقف والتغيير الذي أحدثته كلمة المعلمة في نفس طفلة وفي مسارها وخطتها اليومية.. تيقنت أن المعلمة في أحد أمرين إما أنها ما زالت تحدق في قافلة التاريخ الذي خلع أحماله من التراث وطوى أوراقه وحرق ماضيه منذ أعوام.. وإما أنها قد وضعت تفسيرا جديدا لمجتمع المعرفة.. فالمعرفة التي أظهرتها المعلمة في المدرسة وبين الطالبات ليست المعرفة بمفهومها العلمي والمتعارف عليه والذي تسعى الدولة من خلال التعليم إلى الوصول إليه بل المعرفة التي تفسد العمل ..المعرفة التي تفسد المهنة وتفسد الأداء في المهنة ..المعرفة التي قصدتها المعلمة ليست المعرفة التي تعارف العالم عليها ورسمت الخطط التعليمية والتنموية بناء عليها والتي تزيد من رفع الكفاءة والإنتاجية.. وإنما المعرفة الشخصية التي إذا دخلت وبأسلوب خاطئ أفسدت العمل.. وليست المعرفة الشخصية أن تعرفني وأعرفك وتسلم علي وأسلم عليك وأخدمك إذا احتجت وأشير إليك إن استشرت وأقف معك في الحق وأنتصر لك إن ظلمت وأساندك إن تنكر لك حاسد أو غيور فهذه المعرفة من قيمنا التي دعانا لها ديننا وأكد عليها ولاة أمرنا لأنها استجابة لطبيعة الإنسان التي تميل إلى التواصل والتضامن والتكافل الفطري الكامن وتكسبنا حدا أدنى من الحس الإنساني والقيم المجتمعية .. وإنما المعرفة التي تخل بموازين العمل ومعاييره وجودته فإن تشهد معي أقف معك ... وإن توقع معي أساندك ... وإن تهدر كرامة فلان من الناس انضم إلى صفك وصوتك .. إن تشتكي معي أحمل عنك الخطأ وأغفر لك فالقرار الذي أصدرته المعلمة القائم على المعرفة أضر بالطالبة سواء التي منعت من التقديم في الإذاعة الصباحية لأن شعرها كيرلي أو التي أجبرت على التقديم وأضرت بتقديمها أهداف التعليم وطبيعة السير فيه ومالت المعرفة بخطته..
حبيبتي ابنتي ذات السبع سنوات لحق بها أذى المعرفة ولحق بقطتها وكتبها وحديقتها وخطتها اليومية.. لك اعتذاري حتى يزول عصر المعرفة ويأتي عصر المعرفة ..